مفهوم الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي
مفهوم الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي
عرض/عمر كوش
يكتسي هذا الكتاب أهمية خاصة في أيامنا هذه، لكونه يهتم بتحديد وتوثيق المعاني والمفاهيم المتصلة بمفهوم الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة في القانون الدولي، ولكونه يأتي في وقت أصدرت فيه المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف ضد الرئيس السوداني عمر حسن البشير على خلفية اتهامه بجرائم ضد المدنيين في إقليم دارفور.
وهو يأتي في وقت تتعالى فيه أصوات بعض المنظمات العربية والدولية لملاحقة ومحاكمة القادة والجنرالات الإسرائيليين على ما ارتكبوه من جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة خلال عدوانهم الأخير، وعلى ما ارتكبوه من جرائم حرب في مختلف الأراضي الفلسطينية.
ويتناول الكتاب مختلف أنواع الخروق وأشكال الجرائم التي تعتبر الأقدم والأهم في المعالجة الدولية، وتلك التي تمارس ضد الإنسان في المعتقلات وفي السجون إلى جانب جرائم الإبادة والتعذيب والعبودية والفصل العنصري والاختفاء القَسْري والعنف الجنسي والسجن التعسفي والاضطهاد.
كما يهتم بوصف وتحديد طرق الملاحقة الدولية لهذه الجرائم، وما يتصل بها من أشكال الحماية المطلوبة في أوقات السلم والحرب، ساعياً إلى تبيان حدود الجريمة والعقاب خلال الحروب وبعدها.
|
ويعرّف هذا الكتاب الجرائم ضد الإنسانية بأنها تلك الجرائم التي يرتكبها أفراد من دولة ما ضد أفراد آخرين من دولتهم أو من غير دولتهم، بشكل منهجي وضمن خطة للاضطهاد والتمييز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد بالطرف الآخر، وذلك بمشاركة مع آخرين لاقتراف هذه الجرائم ضد مدنيين يختلفون عنهم من حيث الانتماء الفكري أو الديني أو العرقي أو الوطني أو الاجتماعي أو لأية أنواع أخرى من الاختلاف.
وترجع بدايات الحديث عن الجرائم ضد الإنسانية إلى الحرب العالمية الأولى، لكنها لم تصبح جزءا فعلياً من القانون الدولي إلا بعد الحرب العالمية الثانية, ونتيجة للفظائع التي ارتكبت في هذه الحرب، مع أن الجرائم ضد الإنسانية, كما هي معروفة اليوم, هي ممارسات قديمة موغلة في قدمها في التاريخ, لكن محاولة تلمس طريقة لوقفها بدأت في الحرب العالمية الأولى.
وتطورت هذه المحاولة إلى سعي حقيقي نحو إدخالها ضمن القانون الدولي، لتصبح ملاحقة مرتكبيها ومحاسبتهم وملاحقتهم جزءا من هذا القانون، الذي ما يزال في مراحل تطوره الأولية.
ومع ذلك فإن هنالك كثيرا من القواعد والأعراف الدولية والمعاهدات التي تعرف العديد من جوانب هذا القانون, وتجعل من الممكن قيام نظام قضائي دولي لملاحقة مرتكبيها.
وتشمل الجرائم ضد الإنسانية تلك الجرائم التي وردت في التعريف السابق، وغالباً ما ترتكب تلك الأفعال ضمن تعليمات يصدرها القائمون على السلطة في الدولة أو الجماعة المسيطرة، ولكن ينفذها الأفراد.
وفي كل الحالات، يكون الجميع مذنبين، من مصدري التعليمات إلى المحرضين، إلى المقترفين بشكل مباشر، إلى الساكتين عنها رغم علمهم بخطورتها، وبأنها تمارس بشكل منهجي ضد أفراد من جماعة أخرى.
ويورد المؤلف ما نص عليه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي عرف باسم نظام روما، واعتبر أن الجرائم الإنسانية قد ترتكب في أي من النزاعات المسلحة، وقد ترتكب من قبل الدولة ضد مواطنيها، وهو بهذا المعنى طور مفهوم الجرائم الدولية لتشمل ملاحقة مقترفيها حتى لو كان ذلك قد تم داخل الدولة ضد مواطنيها، وضمن ما تعتبره من أمورها السيادية.
وقد طورّ هذا النظام الملاحقة الدولية، بحيث يصبح الفرد مذنباً بجريمة ضد الإنسانية حتى لو اقترف اعتداءً واحداً أو اعتداءين يعتبران من الجرائم التي تنطبق عليها مواصفات الجرائم ضد الإنسانية، كما وردت في نظام روما، أو أنه كان ذا علاقة بمثل هذه الاعتداءات ضد قلة من المدنيين، على أساس أن هذه الاعتداءات جرت كجزء من نمط متواصل قائم على سوء النية يقترفه أشخاص لهم علاقة بالمذنب."في حالات الجرائم ضد الإنسانية يكون الجميع مذنبين، من مصدري التعليمات إلى المحرضين، إلى المقترفين بشكل مباشر، إلى الساكتين عنها رغم علمهم بخطورتها، وبأنها تمارس بشكل منهجي ضد أفراد من جماعة أخرى"
ثم يخصص الكتاب فصولاً مستقلة لسبعة أنواع من الجرائم التي تعتبر الأقدم أو الأهم في المعالجة الدولية، وهي جريمة الإبادة بشقيها الجماعية والعامة، وكذلك جريمة التعذيب التي عرّفها نظام روما على أنها تعني "تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة سواء كان بدنياً أو عقلياً، بشخص موجود تحت إشراف المتهم أو سيطرته.
ولكن لا يشمل التعذيب أي ألم أو معاناة ينجمان عن عقوبات قانونية أو يكونان جزءاً منها أو نتيجة لها، وجريمة العبودية التي عرفها نظام روما على أنها تعني "ممارسة أي من السلطات المترتبة على حق الملكية، أو هذه السلطات جميعا، على شخص ما، بما في ذلك ممارسة هذه السلطات في سبيل الاتجار بالأشخاص، ولاسيما النساء والأطفال".
وتشمل هذه أيضا أنواعا مختلفة من العبودية، مثل الاستعباد الجنسي والاتجار بالبشر، التي وردت على أنها جرائم مستقلة في القانون الدولي.
وهناك ثلاثة أنواع من الجرائم الدولية التي اتفق على ملاحقة مرتكبيها ومحاسبتهم ومعاقبتهم، وهي جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
ونظرا لأن البحث بالأساس هو حول الجرائم ضد الإنسانية، وليس حول كل الجرائم الدولية، فإن المؤلف يعيد جريمة الإبادة الجماعية إلى موقعها الأصلي كنوع من الجرائم ضد الإنسانية، لا كجريمة مستقلة عنها، بالرغم من أن تصنيف القانون الدولي للجرائم الدولية واضح جداً في اعتبار جرائم الإبادة الجماعية نوعاً خاصاً من الجرائم الدولية التي تحتاج إلى إثبات أركان جرمية أشد وأوضح مما هو مطلوب للجرائم ضد الإنسانية، وبالتالي فصلها كلياً عن الجرائم ضد الإنسانية عند تقنين أحكام الجرائم الدولية.
ويفرّق المؤلف بين جريمة الإبادة الجماعية بوصفها جريمة قتل جماعي لمجموعة من البشر تتم على أساس تمييزي بقصد فنائهم الكلي كعرق أو شعب أو مجموعة متميزة مستقلة حضارياً أو ثقافياً أو لغوياً أو دينياً أو لأي سبب يميزهم من الباقين، وبين جريمة الإبادة التي تعني القتل الجماعي لمجموعة من البشر دون قصد إفنائهم كمجموعة متميزة، بل يتم الأمر للتخلص منهم في منطقة ما لسبب آخر عدا الإفناء الكلي لهم.
التطهير في فلسطين"عملية التهجير القسري للفلسطينيين قد تمت بشكل مبرمج ومخطط بهدف (تطهير) فلسطين من سكانها العرب، حيث واكبت عملية التهجير القسري حملات مكثفة من العنف والإرهاب والمجازر"
وهنا يتداخل مفهوم جريمة الإبادة مع مفهوم أوسع وأعم هو مفهوم "التطهير العرقي" الذي يعتبر من الجرائم ضد الإنسانية، ليس بكونه جريمة مستقلة، وإنما بممارسات عدة يتم بواسطتها ارتكاب جريمة أو عدد من الجرائم ضد الإنسانية بقصد تحقيق التطهير العرقي.
والتطهير العرقي اصطلاح قديم وممارسة تم تطبيقها بأشكال مختلفة في العديد من الصراعات، وأحياناً أخرى عن طريق اقتراف جرائم العنف الجنسي أو الاضطهاد أو ممارسة الإرهاب والمذابح الضيقة ضد أفراد الجماعة المراد التخلص منها، حسبما جرى في البوسنة، وكما حصل في فلسطين أيضا.
ويتحدث الكتاب بالتفصيل عن مختلف أنواع الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت ضد الفلسطينيين بقصد التطهير العرقي، مستنداً إلى تأكيدات العديد من المؤرخين، التي تفيد بأن عملية التهجير القسري للفلسطينيين قد تمت بشكل مبرمج ومخطط بهدف (تطهير) فلسطين من سكانها العرب، حيث واكبت عملية التهجير القسري حملات مكثفة من العنف والإرهاب والمجازر، التي شكّلت أحد الأسباب الرئيسية لهجرة عرب فلسطين عن قراهم ومدنهم.
ويورد المؤلف تفاصيل عن مختلف الأساليب التي استعملت ضد السكان الفلسطينيين لإجبارهم على مغادرة قراهم ومدنهم وأماكن سكناهم، بهدف جعل البلاد الفلسطينية خالية لاستيعاب المهاجرين الجدد من اليهود، مشيراً إلى أن عمليات الإرهاب الصهيوني بدأت ضد الفلسطينيين لإجبارهم على مغادرة أراضيهم سنة 1947 عندما صدر قرار التقسيم في هيئة الأمم المتحدة، بل وسبقت ذلك بكثير، وكانت تهدف إلى تحقيق ثقل عسكري في مناطق معينة.
ومنذ قرار التقسيم إلى أن انتهت العمليات الحربية سنة 1948، قامت العصابات الصهيونية النظامية وغير النظامية التي شكلت لاحقاً الجيش الإسرائيلي، بارتكاب كثير من الجرائم والمذابح بهدف بث الرعب بين الفلسطينيين لترحيلهم عن أراضيهم وتدمير حياتهم وقراهم.
واستمرت هذه الأعمال حتى بعد قيام دولة إسرائيل التي مارستها بشكل منهجي بغية طرد السكان العرب خارج حدود الدولة العبرية.
وتعد الإبادة الجماعية أخطر الجرائم الدولية، فقد تمت ملاحقة مرتكبيها ومحاسبتهم ومعاقبتهم في محكمة نورمنبورغ وفي المحكمة العسكرية باليابان. وهي جريمة لا يشملها حق اللجوء السياسي، ولهذا لا يعامل مرتكبوها على أنهم مجرمون سياسيون، حيث نصت اتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، على أنه "لا تعتبر الإبادة الجماعية والأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة جرائم سياسية على صعيد تسلّم المجرمين".
وتتعهد الأطراف المتعاقدة في مثل هذه الحالات بتلبية طلب التسليم وفقاً لقوانينها ومعاهداتها النافذة.
ويقدم الكتاب تحليلاً لأسباب تعطيل مفعول القانون الدولي وفشله في توفير الحماية لحياة الناس الآمنين، خاصة خلال فترة الحرب الباردة، حيث ظهرت المعايير المزدوجة للدولة المؤثرة والفاعلة في التعامل مع مختلف قضايا العلاقات الدولية والمجتمع الدولي.
وينطلق من افتراض أن القانون الدولي قد تطور إلى الحد الذي يصنف فعلاً الجرائم ضد الإنسانية، ويعتبرها الأكثر خطورة في الممارسات الدولية, ويطالب بملاحقة ومحاسبة ومعاقبة مرتكبيها مهما كان شأنهم, على رغم أن القوى المنتصرة ترى أن القانون الدولي لا يطالها, وبأنها يجب أن تكون محمية من الملاحقة والمحاسبة والعقاب.
قانون بمكيالين"مصالح الدول الكبرى تفرض نفسها في كثير من الحالات بشكل يعلو على الفهم العالمي لتطبيق القانون الدولي، فتعود هذه الدول إلى استعمال المعايير المزدوجة من حين إلى آخر"
ويتطرق الكتاب، من خلال فهم المعنى والمفهوم, إلى تناول الملاحقة الدولية لمرتكبي الجرائم الدولية, وكيفية تطور هذه الملاحقة إلى درجة الوصول إلى تشكيل المحكمة الجنائية الدولية, معتبراً أن القانون الدولي قد تطور إلى درجة يمكن فيها للمجتمع الدولي ملاحقة ومحاسبة ومعاقبة مرتكبي هذه الجرائم, وذلك بالرغم من أن بعض القوى العظمى تحاول الإفلات من أحكام القانون الدولي, التي شاركت هي في وضعها أساساً, ليكون قانوناً لمحاسبة المهزومين.
قد أصبح القانون الدولي الآن قانوناً دولياً لمحاسبة كل المخطئين, منتصرين أكانوا أم مهزومين, حيث إنه أصبح حاجة ملحة دولياً لملاحقة ومحاكمة ومعاقبة كل من يقترف انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ويخالف القانون الدولي الإنساني.
ويرى المؤلف أن مصالح الدول الكبرى تفرض نفسها في كثير من الحالات بشكل يعلو على الفهم العالمي لتطبيق القانون الدولي، فتعود هذه الدول إلى استعمال المعايير المزدوجة من حين إلى آخر، بحيث يطبق القانون الدولي على البعض بشكل صارم جداً، ويستثني البعض الآخر في التطبيق.
وهذا ما يظهر بوضوح، مثلاً، عندما يتم التعامل مع أية قضية لها علاقة بإسرائيل، بحيث تنحاز الولايات المتحدة الأميركية، وأحياناً بعض الدول الكبرى الأوروبية الأخرى، لتمنع اتخاذ قرارات تدين انتهاكات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما تقترفه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فيها، وغيرها من الخروق الجسيمة للقانون الدولي.
تعليقات
لا يوجد نتائج مطابقة