عناوين المأساة في سوريا
هول الرؤية
القتل الرخيص
العدالة الجنائية الوطنية
ألف يوم ويوم انقضت من ملحمة غير مسبوقة في التاريخ البشري ما لبثتَ تترنّح في فصولها بين هيبة الألم وغيبة العدالة.
خرجت تبتغي وجه الحريّة فكان مصيرك طلقة في الرأس أو مقصّ جلاّد يقبع متشهّيا دمك في غياهب الأقبية المسكونة بصرخة ألمك العاري.
طالبت بالكرامة الإنسانية فدفعوا بك خارج أرضك هائما على وجهك في القارات، وكان الجوع والعطش وغبار الصحراء أهون أقدارك.
أردت إسقاط المستبدّ فكانت إرادة العالم أن تُسقط إرادتك. ألف يوم ويوم، والعالم "الحر" يتفرج على قدميك الحافيتين تجران أغلالك على أرض الشوك والدم، ولا مغيث."ألف يوم ويوم انقضت حتى الآن من ملحمة غير مسبوقة في التاريخ البشري ما لبث السوري يترنّح في فصولها بين هيبة الألم وغيبة العدالة"
أيها السوريّ المنسوب إلى دم عثمان المنتشر على مزق قميصه الشائع بين القبائل، كم يلزم الآخرين من ماء العين لرصد ترنّحك على رخام الشاهدة قبل أن تخرّ شبه ميت شبه حيّ؟
كم من الدم المفتوح على شريان التراب يكفي ليلتقط العابرون الحبل السري لنجاتك؟ وكم من الصقيع والجفاف تحتاج لتغدق الصحراء على جسدك عباءة العبور من ضفة القتل الأول إلى ضفة القتل الأخير. أيها المصلوب بجسدك الأسطوري على خارطة أطماع العالم.
هول الرؤية
"الجوع أو الركوع".. عبارة كُتبت بخط رديء ومستعجل على حواجز الحصار الأسدي حول مدن وقرى ريف دمشق بغوطتيها.
تناقلت كاميرات هواتف النشطاء هذا الشعار الجديد التي تتبناه القوات النظامية السورية منذ أطبق الجيش كمّاشته على محيط دمشق وريفها، حيث الحاجز الأخير لمعقل قوات الأسد المتربّصة في العاصمة، ومصدر مخاوفها، إثر وصول مقاتلي المعارضة المسلحة إلى بوابة دمشق عبر ساحة العباسيين في وقت سابق.
والتجويع الممنهج -الذي يستعمله النظام السوري منذ عام ونيف- هو أقرب إلى سلاح التدمير الشامل الذي لا تطاله القوانين الدولية ولا يمكن ملاحقة منفّذيه بتهمة جريمة الحرب كما حدث إثر استخدام غاز السارين في 21 أغسطس/آب 2013 ضد الأطفال والنساء من المدنيين العزل في مدينة معضمية الشام ومحيط العاصمة من مدن الغوطتين الشرقية والغربية.
الطفلة رنا عبيد -ذات العام الواحد من العمر- توفيت بطلقة الجوع في مدينة المعضمية. تناقلت الأخبار العالمية صور جثمانها الصغير وقد برزت ضلوع صدرها وانتفخ بطنها.
وقد أشار طبيب سوري في المشفى المحلي المتواضع الذي قضت فيه رنا "أنها الحالة السادسة لأطفال يموتون من سوء التغذية فقط في معضمية الشام من ريف دمشق".
وأضاف "أن المواد الغذائية لا تبعد أحيانا سوى عشرات الأمتار، ولكن الأطفال يموتون بسبب نقطة تفتيش أو قناص يمنعان السكان من الوصول إليها".
هذا وقد احتجّت الأمم المتحدة مرارا لعدم تمكّن موظفيها للإغاثة من زيارة البلدة منذ أكثر من عام بسبب الحصار.
وأصدرت منظمة "أنقذوا الأطفال" الدولية تقريرها الذي يشير إلى أزمة أمن غذائي غير مسبوقة في مناطق الحصار بسبب شحّ المواد الغذائية، وارتفاع أسعارها الهائل إن وجدت، وكذا بسبب عدم تمكن فرق الإنقاذ المحلية والدولية من الوصول إلى المحتاجين سواء في الداخل السوري أو في مواقع اللجوء التي لا تقل بؤسا عن حال النازحين والمحاصرين في الداخل.
فقد اضطرت الفرق الإغاثية الأممية إلى تقليص الخدمات الإغاثية للاجئين في لبنان، حيث المخيمات الأشد عوزا من أي موقع آخر للجوء، وذلك بسبب التدفّق الهائل للاجئين الذي يفوق إمكانيات المنظمات الإغاثية مجتمعة.
وتحالفت عاصفة أليكسا الثلجية التي ضربت المنطقة مع متعهدي الموت وأمراء الحصار الأسديين.
وكان شكل الموت بفعل الصقيع متشابها بين من قضى بفعل العاصفة في الداخل السوري -حيث لا محروقات للتدفئة ولا كهرباء- وبين من قضى تحت سقف خيمة سقطت على رؤوس أصحابها بفعل سرعة الريح أو كتلة الجليد.
وسجلت أول حالة وفاة سورية بسبب البرد في الرستن، حيث توفيت الطفلة نضال أسكيف بعد أن تجمدت يداها من البرد وتوقف قلبها لشدة الصقيع، بينما ودّعت حمص الطفل حسين طويل ذا الستة شهور من العمر بسبب توقّف قلبه الصغير الذي عجز عن مقاومة البرد الشديد في ظل غياب كل وسائل العيش الأولية.
القتل الرخيص
في آخر ابتكارات النظام السوري لتجهيز أدوات القتل لشعبه، بكل الوسائل المتاحة وبأرخص كلفة، جاءت موجة البراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات عامودية على المناطق السكنية بشكل عشوائي، وفي وضح النهار، بهدف قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، وإثارة الهلع بين السكان من خلال ترهيبهم، وإحداث أكبر قدر من الخسائر في الأرواح والممتلكات في عقاب جماعي ممنهج لكل من اعتنق ضميره الوطني نهج الثورة رافضا العودة إلى عهد الاستبداد.
"الطفلة رنا عبيد -ذات العام الواحد- توفيت بطلقة الجوع في مدينة المعضمية. تناقلت الأخبار العالمية صور جثمانها الصغير وقد برزت ضلوع صدرها وانتفخ بطنها"
ويقوم النظام بتصنيع هذه البراميل على عجل وبصورة بدائية، حيث تُحشى براميل وقود معدنية بمادة "تي إن تي" المتفجرة، ويضاف إليها مواد نفطية لتساعد على الاشتعال وإضرام الحرائق، وكذا قصاصات معدنية ومسامير تتحوّل إثر انفجار البرميل إلى شظايا قاتلة تستهدف الأجساد البريئة.
وتبعا لإحصاءات الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن القوات الحكومية استخدمت "أكثر من 1425 برميلا متفجّرا أودت بحياة ما لا يقل عن 1179 مواطنا بينهم قرابة 240 طفلا وأكثر من 97 امرأة"، ومعظم الضحايا هم مدنيون سقطت عليهم البراميل في أحيائهم السكنية، فوق البيوت والمدارس وأماكن العبادة.
وكان لمدينة حلب النصيب الأعظم من حجم هذا القتل حيث تلاحقت غارات البراميل على المدينة وريفها في الأسبوعين الأخيرين من ديسمبر/كانون الأول 2013.
وذكرت إحصاءات المرصد السوري أنه "منذ تاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول وحتى 22 منه، قتل بفعل غارات البراميل 301 مواطن، بينهم 87 طفلا و31 سيدة و30 مقاتلا من قوات المعارضة".
العدالة الجنائية الوطنية
سجل اليوم التاسع من ديسمبر/كانون الأول مرور ألف يوم على اندلاع الثورة السورية الماجدة، والذي تمثّل بخروج كبير للسوريين في مظاهرات سلمية، مطالبين بالحرية والكرامة والمشاركة السياسية، واجهها النظام السوري بالرصاص الحيّ موجَّها إلى صدور الشباب العارية بدلا من أن يستجيب لنداءات الإصلاح والتغيير.
وكلنا يذكر في الشهر الأول من الثورة صورة ذاك الشاب الدرعاوي البطل الذي وقف وحيدا على الإسفلت، عاري الصدر، في مواجهة دبابة الجيش النظامي الذي كان يحصد الأخضر واليابس في هذه المدينة التي استولدت الثورة من صوت أطفالها السبعة وهم يتعرضون للتعذيب المبرّح في أقبية المخابرات السورية لأنهم كتبوا على جدران مدرستهم: الشعب يريد إسقاط النظام.
وتشير الإحصاءات المعلنة (والمؤكّد أن الأرقام الحقيقية هي أعلى بكثير) إلى أنه قد سقط في حرب بشار الأسد على شعبه ما يفوق الـ140 ألف شهيد، أي بمعدّل شخص إلى شخصين يستشهدان في سوريا كل 15 دقيقة.
وهناك أكثر من 8.5 ملايين شخص اضطروا لهجر بيوتهم، مليونان منهم باتوا لاجئين. كما أن 9.3 ملايين شخص أصبحوا بحاجة للمساعدة ويعتمدون على المساعدات الإنسانية فيما يشكّل أعظم كارثة إنسانية يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
أما عدد اللاجئين السوريين فقد تجاوز 1.8 مليون لاجئ، خلال الاثني عشر شهرا الأخيرة فقط، ليصل إلى أكثر من مليوني لاجئ، والعدد في تصاعد مستمر.
أما عن المعتقلين فحدّث ولا حرج، إذ يقدّر عددهم بحوالي 230 ألف معتقل عدد كبير منهم يمكن أن يكون قضى تحت التعذيب الممنهج في السجون، والتحق بسرب الشهداء.
فصل المقال يكمن في السؤال الكبير: من سيجلب حكم العدالة لمن بقي حيّا ونجا من هذا الهولوكوست الذي لم تشهده البشرية إلا من فاشستيي الحرب العالمية الثانية، وإذا به يعيد نفسه في سوريا على يد "النازيين الجدد"؟
وما هي آليات تحقيق العدالة الجنائية حتى تستريح أرواح من قضوا تحت التعذيب أو بفعل رصاصة حاقدة؟ وكيف ومتى سيلقى عقابَه كلُّ من تجرّأ وانتهك حقّا من حقوق هذا الشعب العظيم في الحياة والحرية والكرامة باشتقاقاتهم الإنسانية والسياسية كافة؟
وفي 2 ديسمبر/كانون الأول 2013 أصدرت اللجنة، ولأول مرة منذ اندلاع عمليات القتل في سوريا، بيانا يشير إلى مسؤولية الرئيس السوري بشار الأسد المباشرة عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية."وصل عدد اللاجئين السوريين لأكثر من مليوني لاجئ، أما المعتقلون فيقدر عددهم بحوالي 230 ألف معتقل عدد كبير منهم يمكن أن يكون قضى تحت التعذيب الممنهج في السجون"
وأعلنت مفوّضة الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان نافي بيلاي، أن لجنة التحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان "جمعت أرقاما هائلة من الأدلة حول جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا. وتشير الأدلة إلى مسؤولية يتحمّلها مسؤولون في أعلى المناصب الحكومية بما يشمل رئيس الدولة".
هذا وتدفع الولايات المتحدة، بالتعاون مع هيئات قضائية سورية مستقلّة، لحشد الدعم الدولي من أجل تأسيس محكمة جرائم حرب لعقد محاكمات في سوريا، بالتعاون مع الدول الداعمة للفكرة، في نهج هو خليط بين محكمة دولية ووطنية كما حدث في سيراليون وفي كمبوديا.
وقد أعرب السفير ستيفن راب -السفير المعني بشؤون جرائم الحرب في مكتب العدل بوزارة الخارجية الأميركية- أنه يبذل جهدا دبلوماسيا موسّعا لحشد الدعم الدولي لإنشاء هذه المحكمة من العاملين الدوليين والوطنيين السوريين، وبدعم من القوى الإقليمية، كبديل وطني للمحكمة الجنائية الدولية.
فهل سترى العدالة طريقها في موقع الجريمة نفسه حيث أهدر بشار الأسد ومليشياته، الخاصة والمستوردة، الدم السوري الحرّ؟ سؤال نتركه مفتوحا لعدالة السماء ورُسُلِها إلى الأرض.
Comments
No Results Found