يُمارس التعذيب بصورة ممنهجة في السجون السورية منذ عقود، وبصورة قد تكون الأكثر وحشية على مستوى العالم

يُمارس التعذيب بصورة ممنهجة في السجون السورية منذ عقود، وبصورة قد تكون الأكثر وحشية على مستوى العالم

تُعدّ سورية واحدة من أسوأ الدول في العالم استناداً لسجلها في ممارسة التعذيب بصورة وحشية ووممنهجة، بحقّ المعتقلين والمحتجزين تعسفياً.

وقد ارتبط التعذيب الممنهج في السجون ومراكز الاعتقال السورية منذ وصول حزب البعث إلى السلطة قبل نحو 51 عاماً، ولكنه استخدامه أصبح أكثر توسعاً ومنهجية منذ نهاية السبعينيات وحتى الآن.

وقد حفلت التقارير الدولية على مدار العقود الماضية بتوثيق ممارسات التعذيب على يد فروع الأمن المختلفة في سورية، وبشهادات مطوّلة من سجناء سابقين عن هذه الممارسات، كما قام عدد من الحقوقيين بمحاولات لحصر أساليب التعذيب المستخدمة في السجون ومراكز الاعتقال السورية، والتي وصلت إلى حوالي 40 أسلوباً.

 

التعذيب منذ بدء الاحتجاجات الشعبية

منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية المناهضة لنظام الأسد، شهدت السجون ومراكز الاعتقال السورية ارتفاعاً غير مسبوق في أعمال التعذيب، حيث أشار كل المعتقلين الذين أفرج عنهم إلى ممارسة التعذيب بحقهم، وممارسة التعذيب على الأشخاص الآخرين الذين اعتُقلوا معهم.

وأيدّ تلك الشهادات منشقّون من أجهزة الأمن ممن شهدوا أو شاركوا في تعذيب المعتقلين وإساءة معاملتهم، وهو أمر لم يكن موجوداً في أي من الفترات التي سبقت اندلاع الاحتجاجات.

وإضافة إلى شهادات المفرج عنه والمعتقلين من ضباط الأمن والشبيحة، أو المنشقين، فإنّ فترة ما بعد انطلاق الثورة السورية شهدت وجود دليل لم يكن ليتم تخيّل وجوده من قبل، وهو الأفلام المصوّرة لعمليات التعذيب، حيث يقوم الجنود والشبيحة بتصوير أنفسهم خلال عمليات التعذيب، من باب التسلية والتفاخر، وتصل إلى الإعلام إمّا من خلال رفع الفيديوهات على الإنترنت من قبل الموالين للنظام، أو بعد مقتل أحد الجنود، ووقوع جهاز الهاتف المحمول بيد معارضين للنظام.

وقد أظهرت هذه الفيديوهات، والتي اصطُلح على تسميتها "بالفيديوهات المسرّبة"، معلومات واسعة عن التعذيب الذي يتعرّض له الموقوفون، وأساليبه والقائمون عليه.. الخ، وهي معلومات لم تكن متوفرة في أي مرحلة سابقة في سورية، ولم تكن المنظمات الحقوقية تتخيّل أن تحصل على فيديوهات توثّق لعمليات التعذيب بشكل كامل، بما فيه صور الجناة وأسمائهم.

ومنذ بدء الثورة السورية وحتى الآن فقد تمّ رفع المئات من الفيديوهات المسرّبة، والتي تظهر قوات الأمن والشبيحة وهي تقوم بتعذيب المدنيين والعسكريين، وتعذيب الأطفال والنساء، واستخدام أساليب مذلة، بما في ذلك إجبارهم على تقبيل أحذية الجنود، وإجبارهم على السجود لصورة الرئيس، أو إجبارهم على القول بأنه لا إله إلا بشار الأسد، كما قام الجنود أنفسهم بتوثيق عمليات الاغتصاب التي قاموها به.

يقوم النظام ومؤيدوه بتوثيق جرائمهم بأنفسهم، نتيجة لعدم قيام المجتمع الدولي بمسؤولياته، وترسيخه لسياسة تشجيع المجرمين على الإفلات من العقاب-صورة نشرها أحد إعلامي النظام لمعتقلين داخل سجن حلب المركزي

يقوم النظام ومؤيدوه بتوثيق جرائمهم بأنفسهم، نتيجة لعدم قيام المجتمع الدولي بمسؤولياته، وترسيخه لسياسة تشجيع المجرمين على الإفلات من العقاب-صورة نشرها أحد إعلامي النظام لمعتقلين داخل سجن حلب المركزي

توثيق جريمة التعذيب في سورية

تُعدّل جريمة التعذيب من أصعب الجرائم من ناحية التوثيق، حيث لا يمكن الوصول إليها وقد سُجّلت 212 حالة وفاة تحت التعذيب في عام 2011، بينما سجّلت 865 حالة في عام 2012، إلاّ أن التوقعات تشير إلى أن الأرقام قد تزيد بعشرات الأضعاف عن هذا الرقم، إلاّ أن التأكّد من الأرقام في الوقت الراهن قد يكون مستحيلاً، حيث أنّ معظم حالات الاعتقال تتمّ بدون أي سند قانوني، ولا يمكن تسجيلها، وبالتالي فإنّ عدداً كبيراً من المعتقلين يمكن تصنيفه ضمن المختفين قسرياً، ولا يمكن التأكد من مصيرهم.

وفي الحالات التي تمّ توثيقها، فقد سُلّمت الجثث إلى الأهالي لدفنها، ويظهر عليها آثار التعذيب القاسي، بما في ذلك الكيّ والصعق الكهربائي، وقطع بعض أجزاء الجسم، كما حصل في حالات كثيرة، مثل حالة الناشط غياث مطر، والذي سُلّمت جثته إلى أهله يوم 9/10/2011، بعدما تمّ استئصال حنجرته ووضعها بكيس بلاستيكي، وحالة الطفل حمزة الخطيب، والذي تم تسليم جثمانه لأهله بتاريخ 21/5/2011، وقد تمّ قطع عضوه التناسلي، بالإضافة إلى تعرّضه لتعذيب قاسٍ.

وفي 20/1/2014 نُشر عددٌ من صور مسربة، مما مجموعه 55 ألف صورة لأحد عشر معتقلاً قُتلوا تحت التعذيب في فرع أمني واحد، ضمن تقرير حقوقي دولي وثّق هذه الصور وتأكّد من مصداقيتها. وقد تمّ تسريب الصور من خلال الضابط المسؤول عن تصوير الجثث، والذي انشقّ لاحقاً، وأحضر الصور معه، وتمّت مقابلته من قبل اللجنة ثلاث مرات، ووصفته بأنّ مصدر جدير بالثقة.

وقد وفّرت المواد المسربة أدوات توثيق لم تكن متوفّرة في السابق،  بما يُمكّن من محاسبة الجناة أمام محاكم مختصة، كما مكّنت الوثائق المسرّبة من توثيق أسماء الجناة وأسماء الضحايا، وتوثيق وسائل التعذيب، وتوثيق تسلسل القرار في تنفيذ عمليات التعذيب.

وقد وثّق تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية، والذي قُدّم لمجلس حقوق الإنسان يوم 12/2/2014، هذه الممارسات، وأشار إلى أن التعذيب وإساءة المعاملة تُمارَس عادةً في مرافق الاحتجاز الرسمية، ولا سيما لدى أجهزة المخابرات مثل فرع الأمن السياسي في حلب، وفرع المخابرات العسكرية 227، وفرع المخابرات العسكرية 215، وفرع المخابرات الجوية في المزة، وفرع الشرطة العسكرية في القابون، وسجن صيدنايا في دمشق، وسجن غرز المركزي في درعا، وفرع المخابرات العسكرية في حمص. وما زالت أساليب التعذيب التي تشمل الضرب المبرح على الرأس ومختلف أنحاء الجسد، والتعليق من الذراعين لفترات طويلة، والتعذيب الجنسي، مستمرة كما سبق أن وثقتها اللجنة. وقد ظهرت على أجسام الضحايا إصابات تدل على نمط من التعذيب.

لم تتورع الأجهزة الأمنية السورية عن استخدام كافة أساليب التعذيب المعروفة في العالم

لم تتورع الأجهزة الأمنية السورية عن استخدام كافة أساليب التعذيب المعروفة في العالم

أساليب وحشية للتعذيب

تُشير شهادات المعتقلين، والمواد المسرّبة التي توثق عمليات التعذيب، إلى أن أجهزة الأمن السورية لا تتورّع عن استخدام أي أسلوب وحشي لتعذيب المعتقلين، بما في ذلك الضرب المبرح بكل الأدوات، والصعق الكهربائي، واقتلاع أعضاء بشرية، وخاصة الأعين، واغتصاب السجين، وتعذيب الأعضاء التناسلية، والخنق، والحرمان من النوم.. الخ.

وبالإضافة إلى التعذيب المباشر، فإنّ أجهزة الامن السورية تقوم بممارسة التعذيب المستمر طيلة فترات الاعتقال، من خلال الأوضاع الصحية والبيئة الرديئة داخل أماكن الاحتجاز، والحرمان من الطعام، مما أدّى إلى وفاة عدد كبير من المعتقلين نتيجة لتفشي الأمراض داخل السجن أو بسبب نقص الغذاء.

وقد أظهرت الصور المسربة لضحايا التعذيب أن معظم السجناء يُعانون من هزال شديد، وأنّ نقص الغذاء قد يكون سبب وفاتهم. كما أظهرت صور نشرها الصحفي المؤيد للنظام شادي حلوة من داخل سجن حلب المركزي بتاريخ 22/5/2014 سوء الأوضاع المعيشية والصحية داخل السجن، وأن السجناء يُعانون من هزال شديد، بالإضافة إلى وجود أطفال داخل السجن.

كما يُحرم السجناء والمحتجزون من كافة الحقوق السياسية والمدنية والقانونية، بما في ذلك الحق في معرفة التهمة التي اعتقلوا من أجلها، والحق بعرضهم على محكمة، والحق في توكيل محام، والحق في الاتصال بذويهم.. إلى غير ذلك من الحقوق الأساسية المتعارف عليها في القواعد الدنيا لمعاملة النزلاء.

كما لا تقتصر سياسة التعذيب الممنهج الممارسة في مراكز الاحتجاز السورية على ممارسة التعذيب بحق المعتقل، بل يمتد ذلك إلى أسرته، حيث يتم اعتقال أفراد الأسرة -بما في ذلك الأطفال- وتعذيبهم، واغتصابهم أمام السجين، من أجل إجباره على الإدلاء بالمعلومات التي تريدها سلطات الاعتقال.

غياب المحاسبة ساعدت في اتساع نطاق الجريمة

تُظهر كل الانتهاكات والجرائم التي يقوم بها النظام السوري عدم اهتمام مرتكبي الجرائم بإخفاء جرائمهم، بل والتفاخر بها وتوثيقها ونشرها من قبلهم (كما في حالة صور شادي حلوة من داخل سجن حلب المركزي). ويعكس هذا التوجّه المستمر من طرف النظام ومؤيّديه الأثر الذي تركه غياب القانون الدولي عما يحدث في سورية، وغياب الإرادة الدولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم، وهو الأمر الذي أدركوه بشكل واضح، ويتصرّفون بناء عليه.

لقد أدّى سياسات المجتمع الدولي الدافعة باتجاه تأمين حل سياسي مع مرتكبي جرائم الحرب، إلى ترسيخ سياسة الإفلات من العقاب، والتي قوّضت منظومة القانون الدولي لحقوق الإنسان برمّته، وساهمت في توسّع نطاق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سورية، بما في ذلك جريمة التعذيب المنهج.

إن اللجنة السورية لحقوق الإنسان وإذ تُشير إلى خطورة تجاهل المجتمع الدولي للانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في سورية، فإنّها تؤكّد على أن غياب المحاسبة بحق مرتكبي الجرائم في سورية، والدفع باتجاه إعادة إدماجهم في العملية السياسة سيُساعد في اتساع نطاق العنف في سورية والمنطقة، وانهيار منظومة القانون في المنظومة القيمية للفرد السوري، وهي مسؤولية ينبغي أن يتحمل المجتمع الدولي عواقبها.

 

المصدر: أخبار الشرق