"نحن غير قادرين منذ سبتمبر 2013م على دخول المخيم لتقديم المساعدات الضرورية التي يحتاجها السكان. إن استمرار وجود الجماعات المسلحة التي دخلت المنطقة في نهاية العام 2012م، ومحاصرتها من قبل القوات النظامية، أحبطا كل جهودنا الإنسانية" [1].
تتناقض روايتا النظام السوري وبعض قوى المعارضة في سوريا حيال مسؤولية الكارثة في مخيم اليرموك بشكل صارخ، ثمة في المعارضة من يرفض الحديث عن تمترس جماعات مسلحة في المخيم من أصله، من بين هؤلاء من يقول إن المقاتلين انسحبوا جميعاً، فيما ظلت قوات النظام والمنظمات الحليفة تمارس على البيئة التي احتضنتهم بطشاً منظماً وقتلاً بطيئاً [2].
في المقابل، يصر نظام بشار على ابتلاع القضية بكلمتين أو ثلاث تتلخص بالإشارة إلى مسؤولية الإرهابيين عن منع وصول الغذاء، ليغدو حصار قواته تفصيلاً عابرًا لا أصلاً في القضية، وليصبح الأساس حيلولة عصابات دون وصول قوافل المساعدات إلى مقاصدها.
ضحايا الجوع داخل اليرموك، بحسب ما تظهره تصريحات مسؤولي الأونروا سقطوا في سياق عملية تكاذب صريح لا تستثني الطرفين المتنازعين. من شحّت أجسادهم حتى الأجل، يمثلون جوعاً إلى هامش إنساني تلاشى وسط غبار المعارك، على الأرض وفي الإعلام. هؤلاء وقود الحرب والورد الذابل على جوانبها. مرة يقتلهم النظام في تغليبه سياسة الحل الأمني والأرض المحروقة، ومرة تغتالهم فصائل معارضة، مباشرة إن كانوا خصومها ومواربة عبر رهنهم لحسابات الميدان.
كاد جوهر المسألة، لولا المبادرات الإنسانية الأخيرة التي انطلقت في غير مكان، ينحصر في استثمار الحدث وتسجيل النقاط. لم يكن يتعلق بنفخ الحياة في القامات المتهدلة لمن تبقى من السكان وتنظيم عملية إجلائهم قبل أن يذوبوا في التراب، بل أدرج سريعاً في جدول الأرباح والخسائر واحتمالات التوظيف، ومنها ما يتصل برمزية المخيمات في ذاكرة العرب الجمعية وفي الخطاب السياسي لمحاور الإقليم.
ولم يكن صعباً إجراء مقارنات تاريخية تصب في هذا السياق. فاستعيدت مشاهد حصار مخيم تل الزعتر مطلع الحرب الأهلية اللبنانية وذكريات حرب المخيمات في نصفها الثاني.
وسلطت الأضواء على أوجه التشابه: معركة تل الزعتر نفذت بغض طرف سوري إبان اجتياح قوات اليمين الانعزالي أكبر معقل للفلسطينيين في المناطق المسيحية واقتلاعهم منها، فيما حرب المخيمات اشتعلت بتشجيع دمشق على استئصال "العرفاتيين" من داخل مجمعات اللاجئين، وشنتها حركة "أمل". حصل هذا علماً أن الكثير من نقاط التمايز أغفل في سياق تهافت التوظيف. من هذه النقاط مثلاً أن "الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة" شاركت في "حرب المخيمات" إلى جانب سائر الفصائل، فيما تجد نفسها اليوم في قلب المعركة من أجل السيطرة على مخيم اليرموك. وهي في هذا الإطار تواجه قوات خرجت من رحم "الحراك السوري" - لا الحركة الفلسطينية - وتحول غالبها المسلح إلى مغاير عقائدي للفصائل الفلسطينية بشقيها، الوطنية منها والإسلامية.
غير أن التوظيف المذكور في الاتجاهين، وبغض النظر عن جهته ومراميه، ظل امتداداً للأصل. والأصل هو المشهد بهوله الصريح، بكفره الفاجر، بالجوع الذي أغفله العالم زمناً برغم أن أخبار أكل الكلاب والقطط خرجت من ثنايا المخيم وأزقته إلى العالم قبل أشهر ثلاثة، ولم تحرك ساكناً. وقد ظل النظام مذاك على أدائه: أحكم الحصار معتبراً أنه قادر على الحسم بمزيد من الخنق. فيما أخذ بعض المعارضة يعد العدة لتحويل المقتلة إلى رأسمال دعائي يسهل تسييله في الإعلام، مرفقاً بنفي الاشتراك في المسؤولية التي أكدها وفد منظمة التحرير بزيارته الأخيرة إلى دمشق.
يمكن الخروج من شوارع اليرموك إلى فضاء الحرب السورية بخلاصات متشابهة، فمأساة المخيم تظهر جانباً أسود يجوز العمل على تقليصه في مشهد التقاتل، وهو جانب قابل للإحياء بمعزل عن الموقف السياسي وعن مؤازرة هذا الطرف أو ذاك. إذ ثمة بعد إنساني بأمس الحاجة اليوم إلى حيز خاص، حتى يعاد الاعتبار للحياة كمقصد نهائي في البلاد، لا للموت كظاهر المستقبل في دوامة العنف المتمادي.
وإعادة الاعتبار للبعد الإنساني، بصفته هذه، أي مفصولاً عن السياسة، يعيقها احتدام النزاع ومنطق الاستقطاب الحاد. إذ ما زال القتل الذي باشرت به أجهزة الأمن ولحقتها نحوه جماعات العنف "الجهادي"، بـ"داعشها" وغيره، أداة سياسية وسلعة إعلامية لا ضوابط لاستنفادها. والموت هنا، بأشكاله الأكثر بؤساً، لا يصيب أفراداً وجماعات إصابات مباشرة فحسب، بل يهدد بتشكيل أجيال معطوبة من السوريين وبترك ندوب في ذاكرتهم الجمعية لعقود مقبلة.
لا نهاية للخراب ولا لسيل الدماء في بلاد الشام قبل أن تضع الحرب الأهلية السورية أوزارها بغطاء إقليمي ورعاية دولية. بيد أن الرهان على قدرة ما على ضبط آلة القتل، ولو بالحد الأدنى، جائز إذا ما تبلورت دوائر اجتماعية، داخل سوريا وخارجها، تهدف إلى متابعة الجانب الإنساني بعيداً عن التسييس. وهذا، في نهاية المطاف، يصب في خانة توسيع هامش الراغبين بحل يبقي على ما تبقى، ويرجح في الميزان كفة التغيير التدريجي، تحديداً لأنه يثبت منطقاً حقوقياً، هو، من حيث المبدأ، أعلى من السياسة وأثبت.
"اليرموك"، اليوم، يشكل مثالاً على المذكور، وفيه تصح هذه القراءة. إذ ان المسألة الإنسانية تحتاج إلى حيز خاص.
فالجوع كافر في اليرموك. ولا يملك النظام أن يتهم أحداً بالتكفير لقول كهذا، فيه كل حب الحياة. الجوع كافر، ولا يصح في حضرة الأجساد المتهالكة أن تبقى ذرائع الميدان أقوى الاعتبارات لدى فصائل المعارضين المقاتلين فوق الركام. الجوع كافر. وكل إنسان سوي عليه أن يشير إليه بذلك بالبيان. وكل إنسان عليه أن يكون "تكفيرياً" بهذا المعنى.
المصدر: موقع راغب السرجاني